كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فهذه ثلاثة معان تقابل المحكم، ينبغي التفطن لها.
وجماع ذلك أن الإحكام تارة يكون في التنزيل. فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان. فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله، أي: فصله من الاشتباه بغيره، وفصل منه ما ليس منه، فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه، ولهذا دخل فيه معنى المنع، كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه، لا جميع معناه، وتارة يكون في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع، وهو اصطلاحي. أو يقال: وهو أشبه: السلف كانوا يسمون كل رفع نسخًا، سواء كان رفع حكم، أو رفع دلالة ظاهرة، فكل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح كتخصيص العام وتقييد المطلق، فهو منسوخ في اصطلاح السلف، وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلِّغ، وقد يكون في مسمع المبلِّغ، وقد يكون في فهمه، كما قال: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]. ومعلوم أن من سمع، سمع النص الذي قد رفع حكمه، أو دلالة له، فإنه يلقى الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ، فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به رفع الحكم، وبان المراد. وعلى هذا التقدير، فيصح أن يقال: المتشابه والمنسوخ، بهذا الاعتبار. والله أعلم.
وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها، حتى لا تشتبه بغيرها. وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا. فتكون محتملة للمعنيين، ولم يقل في المتشابه: ولا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله، وإنما قال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله} وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع. فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو. والوقف هنا، على ما دل عليه أدلة كثيرة، وعليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمهور التابعين، وجماهير الأمة. ولكن لم ينفِ علمهم بمعناه وتفسيره، بل قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]. وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات. وما لا يعقل له معنى لا يتدبر، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82].
ولم يستثن شيئًا منه نهى عن تدبره. والله ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله وطلب فهمه ومعرفة معناه، فلم يذمه الله، بل أمر بذلك ومدح عليه.
يبين ذلك أن التأويل، قد روي أن اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كحيي بن أحطب، وغيره من طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور بقاء هذه الأمة، كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين، وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عامًا، لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل، بعد إسقاط المكرر. وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر.
وروي أن من النصارى الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد نجران من تأول أنا ونحن على أن الآلهة ثلاثة، لأن هذا الضمير جمع. وهذا تأويل في الإيمان بالله. فأولئك تأولوا في اليوم الآخر. وهؤلاء تأولوا في الله. ومعلوم أن أنا ونحن من المتشابه. فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه، ويراد الواحد المعظم نفسه، الذي يقوم مقامه من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى.
فصار هذا متشابهًا لأن اللفظ واحد، والمعنى متنوع، والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه، وبعض المتواطئ أيضا من المتشابه. ويسميها أهل التفسير: الوجوه والنظائر وصنفوا كتب الوجوه والنظائر. فالوجوه في الأسماء المشتركة، والنظائر في الأسماء المتواطئة. وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه والنظائر جميعًا في الأسماء المشتركة، فهي نظائر باعتبار اللفظ، ووجوه باعتبار المعنى، وليس الأمر على ما قاله، بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله، والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد} [البقرة: 163] {إِنَّنِي أَنَا الله لا إله إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] {مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91]: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الفرقان: 2] {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3- 4]. ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه، وحرفوا الكلم عن مواضعه. وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها. وذلك أن الكلام نوعان: إنشاء في الأمر، وإخبار.
فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به، كما قال من قال من السلف: إن السنة هي تأويل الأمر. قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك الله وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن، تعني قوله:: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ أنه كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]. وأما الأخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع، ليس تأويله فهم معناه، وقد جاء اسم التأويل في القرآن في غير موضع. وهذا معناه. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 52- 53] فقد أخبر أنه فصل الكتاب، وتفصيله بيانه وتمييزه بحيث لا يشتبه، ثم قال: {هَلْ يَنظُرُونَ}، أي: ينتظرون {إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}. إلى آخر الآية. وإنما ذلك مجيء ما أخبر به القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها، كالدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ومجيء ربك والملك صفًا صفًا، وما في الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وأنواع النعيم والعذاب وغير ذلك. فحينئذ يقولون: {قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}. وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا الله، فإن الله يقول: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. ويقول: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمرًا ولبنًا وماء وحريرًا وذهبًا وفضة وغير ذلك. ونحن نعلم قطعًا أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه. كما في قوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25]، على أحد القولين، أي: يشبه ما في الدنيا، وليس مثله، فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق، كما أشبهت الحقائقُ الحقائقَ من بعض الوجوه، فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من القدر المشترك بينهما، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه، وتلك الحقائق على ما هي تأويل ما أخبر الله به، وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم. فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح، ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن. ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين، تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحاني، إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد. وإن كان من منافقة الملّتين المقرين بحشر الأجساد، تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحاني والسماع الطيب والروائح العطرة، كل ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته. وكان في هذا أيضا متبعًا للمتشابه، إذ الأسماء تشبه الأسماء، والمسميات تشبه المسميات، ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها. فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه ابتغاء الفتنة بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن يكون في الجنة هذه الحقائق، وابتغاء تأويله ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا، قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله}، فإن تلك الحقائق قال الله فيها: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 7]، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ}: إما أن يكون الضمير عائدًا على الكتاب أو على المتشابه. فإن كان عائدًا على الكتاب لقوله: منه، ومنه: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}، فهذا يصح، فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به، لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلا الله، وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع أخباره أنه مفصل بقوله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}. فجعل التأويل الجائي الكتاب المفصل، وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه وقتًا وقدرًا ونوعًا وحقيقة إلا الله، وإنما نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا، وكذلك قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه} وإذا كان التأويل الكتاب كله والمراد به ذلك، ارتفعت الشبهة، وصار هذا بمنزلة قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلا هو ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}- إلى قوله: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} [الأعراف: 187]. وكذلك قوله: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63]. فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله، وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها، وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به، فعلم تأويله كعلم الساعة والساعة من تأويله. وهذا واضح بيّن، ولا ينافي كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه، وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها. فهذا هذا.
وإن كان الضمير عائدًا إلى ما تشابه كما يقوله كثير من الناس، فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه، بخلاف الأمر والنهي. ولهذا في الآثار: العمل بمحكمه، والإيمان بمتشابه، لأن المقصود في الخبر الإيمان. وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه. بخلاف الأمر والنهي، فإنه متميز غير مشتبه بغيره، فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع، وأمور نتركها لابد أن نتصورها.
ومما جاء من لفظ التأويل في القرآن قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39]. والكتابة عائدة على القرآن، أو على ما لم يحيطوا بعلمه، وهو يعود إلى القرآن. قال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ الله وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسورة مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} [يونس: 37- 40].
فأخبر سبحانه أن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله وهذه الصيغة تدل على امتناع المنفي كقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] لأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله. كما تحداهم وطالبهم لما قال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]، فهذا تعجيز لجميع المخلوقين. قال تعالى: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يونس: 37]، أي: مصدق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب، أي: مفصل الكتاب، فأخبر أنه مصدق الذي بين يديه ومفصل الكتاب. والكتاب اسم جنس. ولما تحدى القائلين: افتراه، ودل على أنهم هم المفترون، قال: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}. ففرق بين الإحاطة بعلمه، وبين إتيان تأويله.
فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه، ولما يأتهم تأويله، وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله، فإن الإحاطة بعمله معرفة معاني الكلام على التمام، وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به. وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به. فعمرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن، ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله. وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم.
إن الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر به محكمه ومتشابه، وإن لم يعلم تأويله، ويبين ذلك أن الله يقول عن الكفار: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 45- 46]. فقد أخبر فقد أخبر، ذمًا للمشركين، أنه إذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا. فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك. وقوله: {أَن يَفْقَهُوهُ} يعود إلى القرآن كله. فعلم أن الله يحب أن يفقه، ولهذا قال الحسن البصري: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عنى بها. وما استثنى من ذلك لا متشابهًا ولا غيره. وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات، أقفه عند كل آية وأسأله عنها. فهذا ابن عباس حبر الأمة، وهو أحد من كان يقول: لا يعلم تأويله إلا الله، يجيب مجاهدًا عن كل آية في القرآن، وهذا هو الذي جعل مجاهدًا ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عن قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل، لأن مجاهد تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله وبيان معانيه. فظن أن هذا هو التأويل المنفي عن غير الله. وأصل ذلك أن لفظ التأويل، وبه أشير إلى بين ما عناه الله في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين، فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن.
ومجاهد إمام التفسير، قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
وأما التأويل فشأن آخر. ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله وقال: هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أهل العلم والإيمان جميعهم. وإنما قد ينفون علم بعض ذلك على بعض الناس، وهذا لا ريب فيه، وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك، فلقبوها، هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه، وما تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم؟ فجوّز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء، ومنعها طوائف يتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه. والغالب على كلتا الطائفتين الخطأ. أولئك يقصرون في فهمهم القرآن بمنزلة من قيل فيه: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]. وهؤلاء معتدون، بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه. ومن المتأخرين من وضع المسألة بلقب شنيع فقال: لا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئًا، خلافًا للحشوية، وهذا لم يقله مسلم إن الله يتكلم بما لا معنى له، وإنما النزاع هل يتكلم بما لا يفهم معناه. وبين نفي المعنى عند المتكلم، ونفي الفهم عن المخاطب، بون عظيم. ثم احتج بما يجري على أصله، فقال: هذا عبث، والعبث على الله محال، وعنده أن الله لا يقبح منه شيء أصلًا، بل يجوز أن يفعل كل شيء، وليس له أن يقول العبث صفة نقص، فهو منتف عنه، لأن النزاع في الحروف، وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال، ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة، فلا نقل صريح، ولا عقل صحيح.
ومثال الفتن بين الطائفتين ومحار عقولهم أن مدعي التأويل أخطأوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه. فإن الأولين، لعلمهم بالقرآن والسنن، وصحة عقولهم، وعلمهم بكلام السلف، وكلام العرب، علموا يقينًا أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن. فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وصاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون للأخبار والأوامر. وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر، حتى عن أكثر أحوال الأنبياء. وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر، ويتأولون آيات الصفات. وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر. وآخرون من أصناف الأمة، وإن كان يغلب عليهم السنة، فقد يتأولون أيضا مواضع يكون تأويلهم من تحريم الكلم عن مواضعه.